معزوفة السماء فيروز و جبران خليل جبران
بقلم إيمان عوض 🇪🇬
أعطني الناي وغني فالغِنا سرُّ الوجودْ
وأنينُ النايِ يبقى بعدَ أنْ يَفنى الوجودْ
لطالما سمعنا صوت فيروز الملائكي يعزف اللحن الذهبي في كلمات تلك الأغنية ولكن هل تساءلنا يوماً عن تلك الكلمات التي تُصغي إليها روحنا حين تتغنى بها السيدة فيروز من مبدعها لم أعرف كلمات تفيض حزنًا مثل ذلك المقطع الفريد من قصيدة «المواكب» لجبران خليل جبران والتى اشتهرت كأغنية بعنوان «أعطنى الناى وغنى» عندما غنتها فيروز فى شبابها فأحدثت صخبًا فى لون غناء القصيدة العربية
تبدأ حكايات الخلود دائماً بنغمة تأسر الروح وفي التاريخ الفني العربي لا يوجد نغم أعمق أثراً وأشد رسوخاً من أغنية "أعطني الناي وغنّي" بصوت السيدة فيروز الساحر لقد شكل هذا اللحن الذي صدر في العام 1964 نقطة التقاء بين عبقرية جبران خليل جبران المتمردة وإيقاعات الملحن نجيب حنكش المتأثرة بدفء البرازيل ليتحول الأثر الشعري إلى نشيد يتردد صداه في وجدان الأجيال المتعطشة للتفاؤل والجمال إن صوت فيروز لم يكن مجرد وسيلة أداء بل كان الناي نفسه الذي منح الكلمات جناحين من نور لتطير بعيداً عن ثقل المادة واليأس
لقد أبدع القدر في حياة فيروز من ظروف مرت بها بدأت حياتها الفنية في مرحلة عصيبة عاصرت خلالها أحداث جسيمة مثل نكبة فلسطين ثم انتقلت للعيش في لبنان حيث بدأت تتشكل موهبتها الفنية في بيئة غنية ثقافياً كان مسيرها محاطاً بالعمالقة ليقترن اسمها بالأخوين رحباني وكذلك الملحن اللامع نجيب حنكش وازدادت روحها غنىً عندما تغنت بقصائد لعمالقة الشعر أمثال جبران خليل جبران وسعيد عقل ليخرج صوتها موهبة مرهفة المشاعر والأحاسيس تُغرد بكلمات رقيقة فتلمس قلوبنا في أعماق نبضها
القصيدة التي هي جزء أصيل من ديوان جبران "المواكب" المنشور في 1918 ليست مجرد دعوة للهروب بل هي رؤية فلسفية عميقة ترفض الخضوع لليأس وتعلن بثقة عن الإيمان المطلق بقوة الفن والطبيعة كملاذ حقيقي ومُضيء وقد كتب جبران خليل جبران هذه
القصيدة الشهيرة في المهجر وهي تعكس حنينه العميق إلى طبيعة وطنه لبنان ورفضه للقيود المادية والاجتماعية التي أحاطت به في الغرب يرمز الناي إلى صوت الحقيقة الصافية التي لم تتلوث بعد بـ"الشقاء والجنون" الذي يحيط بالحياة المدنية هي دعوة إيجابية للتخلص من الأغلال النفسية وللبحث عن السلام الداخلي
وكان للإبداع اللحني نصيب وافر في خلود هذه
القصيدة فقد تولى تلحينها الفنان اللبناني نجيب حنكش الذي كان متأثراً بالموسيقى البرازيلية الدافئة مما أضفى على الأغنية إيقاعاً فريداً وساحراً يجمع بين عمق النص الشعري وبين الحداثة الفنية ليصبح اللحن امتداداً عضوياً لفلسفة جبران الداعية للحرية والغناء.
فيروز التي غنت لعمالقة الشعر مثل نزار قباني و سعيد عقل و هارون هاشم رشيد حققت نجاحا أخاذاً بدايتها التي انطلقت من قصيدة جبران خليل جبران والتي انطلقت بعدها في سماء الغناء
ومع مرور الأيام لم يتوقف إبداع فيروز عند جبران بل نضجت وصارت تغني بلا استئذان أبياتًا متفرقة من قصائد لشعراء يمثلون أزمنة مختلفة مقدمةً الشعر العربي بأكمله ككنزٍ مفتوح فغنت لأمير الشعراء أحمد شوقي مع لحن محمد عبد الوهاب في «يا جارة الوادي» وطرقت أبواب الغزل العفيف لـ بشارة الخوري (الأخطل الصغير) في «يا عاقد الحاجبين» ومزجت بين الفخر والبطولة في شعر عنترة بن شداد («ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني») واستعرضت روائع الموشحات الأندلسية لـ لسان الدين ابن الخطيب في «يا أهيل الحي من وادي الغضا» وتكلل هذا التنوع بـ «زهرة المدائن» للأخوين رحباني لتؤكد أن صوتها كان أرجوحة عربية للحب والحرية وقضايا الوطن
إن هذا النص الشاعري يجسد الإيمان القوي بأن الوجود الحقيقي يكمن في الاتحاد مع الطبيعة حيث الغابة ترمز إلى الحرية غير المشروطة والصخرة إلى الثبات الأبدي إن فلسفته متفائلة بطبعها لأنها تقدم حلاً بديلاً وواضحاً لمن ضل الطريق وهو العودة إلى هذا المنبع النقي للأمل والسلام
صوت فيروز الخالد وألحان نجيب حنكش حولا القصيدة من حزن محتمل إلى بشرى مشرقة مؤكداً أن البحث عن الجمال الداخلي هو أهم مهمة في حياة الإنسان إنها رسالة تفاؤل أبدية تهمس لكل قلب لا تجعل قيود الواقع تطفئ ناي روحك غنِّ لتُحرر ذاتك وتكتشف سرّك
تبقى "أعطني الناي وغنّي" شاهداً على أن الحقيقة والجمال والفرح لا يمكن أن يموتوا طالما وُجد صوت يصدح بهما إنها دعوة للتجديد الروحي وإشارة إلى أن خلاصنا يكمن في أن نختار نحن وبإرادة واعية أن نعزف لحن الأمل فوق كل ضوضاء العالم فالحرية ليست غائبة بل تنتظرنا في صدى الناي


0 تعليقات