قصة قصيرة
بقلم حسين اسماعيل 🇪🇬
حسن عزازى يفقد ظله
**كان حسن عزازى عايش حياة شبه ساكنة. موظف في أرشيف مجلس المدينة في كفر الشيخ، بيصحى كل يوم الصبح على صوت الغسالة، الغسيل الصباحي، عادة يومية مرتبطة بصلاة الصبح، يلبس نفس الجاكت الرمادي، ياخد نفس الطريق، يشتري نفس الفطار من عند مدحت الفوال: سندوتش فول وقرصين طعمية وربع مخلل**
**يتمشى في نفس الشارع اللي حافظ حفره في الاسفلت، يسلّم على نفس الناس، يشتغل نفس الشغل، يوقع نفس الورق، ويرجع البيت على نفس الهدوء**
**حسن ماكنش بيحب المفاجآت، ولا بيحب الناس اللي بتحب المفاجآت. شايف إن الحياة زي السجادة، لو رفعت طرفها، هتلاقي تحتها تراب، وكل ما تكنس أكتر، التراب يرجعلك من الشباك**
**بس في صباح يوم أربع غريب، حسن لاحظ حاجة أول مرة ياخد باله منها... ماكانش ليه ظل**
**كان واقف في طابور الصراف الآلي، والشمس ضاربة فوق دماغه، والناس حواليه ليهم ظلالهم واضحة على الأرض... إلا حسن. بص على الأرض، مفروض يلاقي شكله ممدود قدامه، راسه، كتفه، كرش صغير طالع، رجلين. مفيش**
** **
**رجع خطوة لورا، مال شمال، اتنحنح، سعل، مفيش فايدة. ظلّه اختفى**
**أول ما لاحظ ده، ساب طابور الصراف وجرى على نفسه. عدّى على "كوفي شوب الأندلس" اللي دايمًا بيلاقي فيه واحد صاحبه زمان من الإعدادية، كان ممكن ياخده على الهادي، لكن لقى الكوفي مقفول. جرى عالبيت، فتح الباب بالمفتاح اللي دايمًا بيتعلق في صباعه التالت، دخل المطبخ، طفى النور، دخل أوضة النوم، ووقف قدام المراية**
**" هو موجود. ووشه هو، بس مفيش حاجة على الحيطة وراه، لا ظل، لا أثر، كأن روحه قررت أن تمضي بدونه"**
**فضل واقف قدام المراية ساعة إلا ربع، ما نطقش. بعدين قال لنفسه:**
**"يمكن حصللي انفصال ظلي. الظل زهق مني ومشي. ولا يمكن... أنا اللي انفصلت عن نفسي؟"**
** **
**رجع يفتكر أيام ما كان طفل في المدرسة، كان بيحب يلاحق ظلّه على الأرض، يتسابق معاه، يلعب معاه، يركبه كأنه فرس**
**فينك يا ظل؟**
**البيت كان ساكت. كأن كل حاجة حواليه بتتفرج عليه وهو بيسأل السؤال الغلط**
** **
**بعد يومين من الإنكار، والتفتيش تحت السرير، وورى الستارة، وفوق الدولاب، قرر يروح لدكتور بلال محمود، دكتور باطني شهير، بس دايمًا بيحب يحشر علم الطاقة في كل حاجة**
**قاله:**
**"دكتور، أنا... فقدت ظلي" **
**د.بلال عدّل نظارته، وبص له كده بنظرة بتقول واضح إننا قدام حالة أدبية**
**رد وقال:**
**يا أستاذ حسن، الظل انعكاس للطاقة الداخلية... لو طاقتك ضعفت، الظل بيروح. ده علم حديث. لازم تعزز التشاكرا بتاعتك**
**حسن ما فهمش، بس خاف يسأله يعني إيه تشاكرا، فهز راسه ومشي**
**من هنا بدأت رحلة البحث**
**راح للشيخ عبد الرؤوف في زاوية مسجد الخياط، سأله عن الرقية الشرعية للي فقدوا ظلهم **
**الشيخ قاله:**
**"أنت متأكد إنك ماشي في النور؟ يمكن انت في الضلمة ومش واخد بالك"**
**رد حسن وهو مخنوق:**
**""يا مولانا، الشمس كانت فوق دماغي، وحاطط إيدي على جبهتي من الحر، وكل الناس ليها ظل... إلا أنا**
**الشيخ سكت شوية وقال:**
**"يبقى الظل زعلان منك. راجع نفسك"**
**وقف حسن في وسط الجامع ينظر قدامه ووراه، وهو حاسس إن العالم كله بيتهرب من السؤال الحقيقي:**
**ليه اختفى ظلي؟**
**خرج حسن من الجامع وهو تايه ما بين كلام الشيخ، وكلام الدكتور، وكلام دماغه اللي بقي يزنّ عليه ليل نهار، ما بقاش عارف هو مجنون ولا اللي حواليه مجانين، هو غلطان ولا اللى حواليه غلطانين**
** **
**كل ما يشوف حد في الشارع، أول حاجة يبص عليها: ظلّه**
**الناس ماشية بظلالهم، الكلاب بظلالها، القطط، حتى التوكتوك له ظل، إلا حسن... مافيش**
**في يوم كان ماشي جنب الكوبري الازرق، وقف يتفرج على انعكاسه في الميّه. الانعكاس موجود، وشه واضح، هدومه، حتى كيس العيش الاسمر اللي في إيده... لكن ما فيش ظل عالأرض**
**قال لنفسه:**
**"يعني أنا مش وهم. طب الظل راح فين؟ ولا هو قرر يعيش حياته لوحده؟"**
** **
**رجع البيت وبدأ يكتب في كشكول قديم كان بيركنه في درج الكومودينو. كتب:**
**أنا حسن عزازى، ٤٩ سنة، موظف أرشيف من كفر الشيخ، فقدت ظلي في يوم أربع. كنت واقف عادي، لكن الظل مشي. محدش مصدقني. يمكن يكون الظل زهق؟ يمكن أنا بقيت ممل لدرجة إن حتى ظلي مش طايقني؟**
**فضل يكتب ويكتب، كل يوم سطرين، لحد ما بقي عنده كراسة كاملة**
**وفي يوم وهو بيقلب في الورق، حس إن فيه حاجة بتتحرك على الحيطة... بص بسرعة**
**لا ما فيش حاجة**
**بس الفكرة بدأت تدبّ في دماغه:**
**لو كتبت أكتر، يمكن الظل يرجع؟**
** **
**ابتدى يخرج كل يوم الصبح، يقعد على القهوة اللي جنب " شفيق الحلاق" بسور الاستاد، ومعاه الكشكول. يكتب مشاهد من حياته، ذكرياته مع أمه قبل ما تموت، أول مرة شاف فيها البحر، وأول مرة ضربه أبوه بالقلم**
**كتب عن أيام الشتا، والصيف والمصيف، وأيام الجفاف العاطفي، وأول مرة ابتسمت له واحده**
**الناس استغربت**
**هو حسن أبو ظِل بقي بيكتب؟**
**فيه ست كبيرة، جارته، اسمها "نبوية العش" وقفته في الشارع مرة وقالتله:**
**"اكتب عننا يا حسن يا اخويا... اكتب عن اللي ماحدش بيشوفه فينا. احنا بردو لينا ظل، بس الناس بتحب تطنّش"**
**هو ابتسم وقالها:**
**"أنا بكتب عن نفسي... بس يمكن تلاقوا نفسكم جوايا"**
** **
**المفاجأة حصلت بعد شهرين**
**عزت كان ماشي في شارع المحكمة، والشمس حامية، وفجأة واحد ندهله من عربية نص نقل:**
**"يا أستاذ! ده ظلّك!"**
**بص حسن... لقى فعلاً فيه ظل تحت رجليه**
**اتشل!**
**وقف مكانه مش مصدق**
**مدّ إيده، لقى ظلّها على الأرض**
**رجليه، جسمه، كله راجع له زي الأول**
**ابتسم... ضحك... اتنهد...**
**يمكن خاف، لما شافنى رايح المحكمة**
**ورجع البيت يجري، دخل الأوضة، وقف قدام المراية، المرة دي ظهر كله، هو وظله، سوا**
**بس كان فيه فرق بسيط... الظل كان ماشي قدّامه بشوية**
**كأنه بيقوله**
**"لو تأخرت تاني، أنا همشي تاني"**
** **
**من يومها، حسن ما بقاش موظف أرشيف**
**قدم استقالته، واشترى ورق كتير وأقلام، وابتدى يكتب**
**بقي يخرج الصبح يكتب قصص عن الناس اللي في الشارع، عن نبوية العش، عن خميس اللي كل يوم يغير محله، يوم يبيع سمك، ويوم يقلبه عطاره، ويوم فرن، عن التقسيم اللي الظلال فيها بتتكلم لو سكتت الدنيا**
**الناس بقت تقعد تسمعه**
**وبقي فيه كرسي زيادة بيتحط جنبه دايمًا... فاضي**
**قالوا إن الكرسي للظل، لو حبّ يقعد**
** **
**وفي آخر كل حكاية، كان حسن يبص للحيطة ورا ضهره، ويتأكد إن ظله لسه هناك...**
**ساكت، بس موجود**
**"أخيرا فهم حسن أن الانسان لا يقاس بجسده بل بما يعكسه من معنى وظله هو ذلك المعنى"**
** **

0 تعليقات