بصائر السائرين الجزء الثاني
بقلم: محمود سودان مصر 🇪🇬
هديه (صلى الله عليه وسلم) في مرحلة ما قبل النبوة: عصمة النشأة وكمال الخلق
المصدر: مستنبط من "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم
في مقالنا الأول من سلسلة "بصائر السائرين"، أرسَينا القاعدة المنهجية التي اتبعها الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"، وهي قاعدة "الاختيار الإلهي". فبعد أن ثبت أن الله يختار الأفضل من كل جنس وزمان، كان لزاماً علينا أن نبدأ بالنموذج الإنساني المُختار: رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يبدأ ابن القيم السيرة بسرد الأحداث التاريخية للبعثة، بل بدأ بما قبلها، ليثبت أن الإعداد الإلهي للنبوة كان شاملاً ومُحكماً.
أولاً: ركائز الكمال.. نسبٌ وشَبَابٌ زاهِر
تبدأ المرحلة الأولى بـ "ما قبل النبوة والبعثة"، والهدف المنهجي هنا هو إثبات أن الوعاء الذي سيحمل أثقل الرسالات كان طاهراً ومصوناً منذ اللحظة الأولى. ويتناول ابن القيم ركائز هذا الإعداد:
1. طهارة الأصل ونبل النسب:
يتوقف الإمام عند نسبه الشريف، ليؤكد أنه صلى الله عليه وسلم من صميم قريش، ومن أوسطها وأطهرها نسباً. هذه المكانة الاجتماعية كانت ضرورية لحمل أمانة الدعوة، إذ إن نبوة النبي في قومه كانت مُؤَيّدة بعراقة أصله ومكانته قبل أن يؤيدها الوحي.
2. عصمة النشأة وإعداد الروح:
تتجاوز نشأته (صلى الله عليه وسلم) حدود التربية البشرية. فمنذ طفولته، أحاطته العناية الإلهية، لا ليُعصم من الذنوب وحسب (وهو ثابت للأنبياء)، بل ليُعصم من الاقتراب من أدران الجاهلية ورذائلها.
لقد عاش في مجتمع وثني تغمره الخرافات وفساد الأخلاق، لكنه لم يشرب خمراً قط، ولم يسجد لصنم قط، ولم يحضر مجوناً قط. كانت سيرته بين قومه بمثابة "مناعة ربانية" ضد محيطه الفاسد.
ثانياً: الهدف المنهجي.. الفصل بين الجاهلية والنبوة
إن التركيز على حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل الأربعين يخدم هدفاً منهجياً عميقاً في "زاد المعاد":
• إثبات الصدق للمُكذِّبين: عندما بُعث (صلى الله عليه وسلم)، لم يكن لدى قريش أي مطعن في شخصيته أو أمانته، بل كانوا يلقبونه بـ "الصادق الأمين". هذا الرصيد الأخلاقي النادر هو ما جعل حجته قوية حتى على أشد المعاندين.
• بيان أن النبوة ليست اكتساباً: عصمته (صلى الله عليه وسلم) ليست نتيجة رياضات روحية أو عزلة ذاتية، بل هي اصطفاء وتوفيق إلهي كامل؛ لأنه لو كان قد أخذ شيئاً من عقائد الجاهلية، لكانت نبوته محل شك.
يشير ابن القيم إلى أن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجاهلية كانت بمثابة "مرحلة عزلة خُلُقية"، فهو مع الناس بجسده، لكن قلبه وروحه معصومان ومنزّهان عن مساوئهم.
خلاصة المقال:
كانت مرحلة ما قبل النبوة هي المرحلة التي أعدت القدوة البشرية الكاملة، ليخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يحمل إثباته من ماضيه، وإثباته من صفاته التي لم يختلف عليها عدو أو صديق. إنه الطهر السابق على التكليف.
في مقال القادم ، سننتقل إلى مرحلة التحول الكبرى: "مرحلة البعثة والدعوة السريّة"، وكيف وضع النبي (صلى الله عليه وسلم) أولى قواعد الثبات في مواجهة الإجهاد.
يتبع ،
والله أعلم
الفقير إلى الله محمود سودان

0 تعليقات