الكاتبة عفيفة سعودي سميطي مقطع من روايتة مرايا عمياء تونس

 

الكاتبة عفيفة سعودي سميطي 

مقطع من روايتي   مرايا عمياء 





-طاهر 

يوقظني صوتها و لمسة   أناملها  التي   شرعت تتحسّس لحيتي الكثّة :

- لم تعد تحلق لحيتك كما في السّابق ؟  تلك المرآة التي أهديتك إياها  ، ألم تجلبها معك ؟

تكسّرت  حبيبتي  و لم يعد بإمكاني التقاط  ملامح وجهي كاملةً ..

المتاجر مليئة بالمرايا ..

ضحكتُ بمرارة ، لا تعلم أنّي أنام  تحت باب خشن عتيق ، و وضع مرآة على عتبته  لن  يعكس   سوى  ماض   أُوصِدت  دون غده  أبواب الحاضر  ،    مفاتيحه  رسبت  في أعماق البحر مع  آخر قائد   أعلن قدرته على التّنبّؤ  ، فلا شيء  يفسد خطط القراصنة قدر  التّنبّؤ  بنواياهم  ، كانت مرآتها  بوصلة ، لا تعمل على  عكس ملامحي بقدر ما كانت   تلهمني  ، كنت أحلق  وجهي  في الصّباحات مغمضا عينيّ  و  كانت  تعكس تلك الفوضى  و تشرع في تسريح خيوطها المتشابكة ، ما إن أشطف وجهي بعد الحلاقة  حتّى  يتجلّى تأثير فعلها على سطحه فألمح  إشراقي و بهائي و أنظر لكرات الخيوط المصفّفة  بانتظام في محاجري  النّاضبة ،  يتدفّق منها ينبوع الألوان   و  تصدح الموسيقى   قاشعة  كآبة  غروبي  ، ألم تكن النّاسجة البارعة  ؟

أصبحت لحيتي الآن   كثّة  ، تفاقمت الفوضى  داخلي  بعد تكسّرها ..

-  طاهر ! 

نعم حبيبتي !

- هناك منسوجة  مخبّأة في .. في ..

-أين ؟ 

كنت جزعا  ، أحدّق  في  صحوتها  و أخشى  أفولها  ، تقاوم  زحف النّسيان  لتجيبني  : 

 - في مفاصل الذّاكرة ، عند المفترق ، سرقها  الخريف ، نسجـتُها بثنائية الأبيض و الأسْود لاستنهاض الحنين الميّت ، فلم يعد الماضي يستحلب فينا  طاقة  الشّعر ، مات الشّعر ، اندثرت خيام الوبر  و عوّضتها خيام اللّجوء ، ابحث عنها طاهر ! نسيت أين خبّأتها ، هرّبتُها  ذات مرّة  حتّى لا تبيعها تلك المستبدّة  لذاك السّمسار الوضيع   تماما كما تباع الآثار  للمستعمرين  على أيدي  المهرّبين ، ظنّتْ  أنّها سُرقت  ليقينها أنّ لا أحد منّا يجرؤ على الدخول لعرينها ، تصوّر ماذا كان سيحدث لجسدي لو أدركت أنّي من فعل ذلك ، لا أتذكّر في أيّ  شقّ من شقوق  الجدار دفنتها ، كانت غاية في الحبك ، غاية في الخفّة ، غاية في الجمال ، ضاعت منّي بحورها الزّرقاء ،  فقد كنتُ  أنشد لقاء البحر عند نسجها  ، لعلّها هاجرت  نحو الشمال ابتغاء  الخضرة و الماء  ،فمثل تلك القصائد تموت في المدن  القاحلة المنسيّة ..

- سأبحث عنها زينة ..

- جدْها ! هناك من يرغب في شرائها ..

- من ؟ 

- الرّبيع القادم  ، وحده يفهم  رموزها  ،  هي تذكرتي الأخيرة نحوه .. 

- و أنا ؟ 

- تذكرتك معك  ،  موسيقاك  !  لن أسافر دونك ، أين تنام الآن ؟

عندما تطرح هذا السّؤال أُدرك أنّها  ستنساني بعد لحظات   ، أختطف كلّ ما تبقّى من شعاعها و أقبّلها ، يبعث فيّ وهجها الموشك على الانطفاء  حرارة  الرّوح  ، مع آخر فتيلة منه تبرد شفتاها  ، تغيم نظراتها و تفرغ من الضّوء  ، تنزل العتمة على أعماقها و تندثر  معرفتها لنفسها  ثمّ تمضي الى عالم التّيه ، مثل السّائرين في النّوم  تقف مسلوبة الوعي  و تسير دون وجهة ، ألمحها  و حرارة جسدها لا تفارق جسدي   تنضمّ لحلقة التّائهين  منجذبة   إليهم بذاك الخيط اللاّمرئيّ  و الذي يوحّدهم في حالة   فالتة من  سيطرة العقل ، مندمجون في  حالة السّير ، في الانفراط من العِقد المنظوم ، يتوهون في مسالك  الفهم المعدوم ، أتابعها و انا لا أزال دافئا بحضورها ، ممحوقا بغيابها القسريّ ، فاتنة ، غضّة ، تعبق  برائحة  الحقول الخضراء  ، تحرق جسدي بتلك الغضاضة ، تبّا لتلك اللحظة  التي    أحرقت اخضرارها و حوّلته إلى رماد ، أناديها علّها تلتفت ، تنظر  إليّ ممرّضة  ركيكة و تمطّ شفتيها و تتّجه نحوهم ، يبدّد صوتها الخشن   مُتعتهم  بالفضاء ، تقودهم مثل القطيع  ، لا تلتفت زينة  نحوي ، مقادة  بصوت تلك المتعجرفة  و بدفعات يديها  تتحرّك في اتّجاه العنابر حيث  تحشرهم  هناك ، أظلّ مكبّلا برائحة جسدها  الطّاغية  ، روائح   الأشجار  و النّخل   تتلاشى  كلّما كانت  في حضني  ، ثمّ  و عندما تغيب  تشرع في  العودة   ، أجمع نفسي المحطّمة   و أغادر ، أتذكّر آنذاك صندوق التّلميع و الأقواس و الأقدام  و كلّ تلك المصاريف  التي تنتظرني .

إرسال تعليق

0 تعليقات